بقلم الدكتور رجا سمرين
الدكتور رجا هو رجا بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن سمرين بن عسكر بن مسلم بن خطاب الذي يعود بنسبه إلى بطن من بطون قبيلة لخم اليمنية التي هاجر كثير من بطونها إلى بلاد الشام والعراق بعد سيل العرم الذي أدى إلى انهيار سد مأرب، بينما بقي بعض بطونها في ربوع شبه الجزيرة العربية، ولم يهاجروا إلى بلاد الشام ومنها فلسطين إلا مع جيوش الفتح الإسلامي.
ويذكر المؤرخون أن بني لخم وبني جُذام وبني وائل وبني بكر وبني القيْن وبني بليّ قد حاربوا المسلمين تحت راية هرقل في معركة مؤتة واليرموك وغيرها من المعارك لأنهم كانوا يدينون بالنصرانية.
وقد قيل بأن الذي استخرج يوسف بن يعقوب من الجب الذي ألقاه فيه إخوته عام 1687 ق.م. كان رجلاً من قافلة تجارية لخمية بقيادة مالك بن ذُعْر اللخمي وهو من جُزيلة، وقيل كذلك إن أصحاب الكهف كانوا من اللخميين.
وكما حاربت لخم وغيرها من القبائل الآنفة الذكر مع الروم ضد المسلمين، فقد حاربت قبل ذلك جيوش زنوبيا ملكة تدمر ضد إمبراطور الرومان غاليانس في القرن الرابع الميلادي وانتصرت عليه.
وصفوة القول أن جُلّ أهل فلسطين ينتسبون إلى لخم وجُذام، وكثيراً ما سميت بلاد الشام بأرض لخم وجذام.
والراجح أن عشيرة خطاب اللخمية التي ينتسب إليها شاعرنا قد استوطنت قالونيا بعد الفتح، بعد مشاركة رجالها فيه.
ولنا أن نتساءل هل يعقل أن يكون خطاب المذكور وهو الجد السادس للشاعر هو نفسه الذي شارك في الفتوحات الإسلامية؟ أم أن هذا الاسم قد تكرر في العشيرة عدّة مرات وهو الأقرب إلى المعقول.
ولد الدكتور رجا سمرين في قرية قالونيا من أعمال القدس في السابع من آذار- مارس - 1929م، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة قريته أولاً، ثم في مدرسة لفتا ثانياً، أما تعليمه الثانوي فقد تلقاه في كلية روضة المعارف الوطنية في القدس.
وقد لحق رجا سمرين بأسرته التي كانت موجودة في القاهرة منذ عام 1946م بحكم عمل والده الذي شغل منصب المرافق الخاص للحاج أمين الحسيني، وقد وصل شاعرنا إلى القاهرة في 23/3/1948م، أي قبل سقوط قريته في أيدي العصابات الصهيونية بعشرين يوماً، وقبل الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني البغيض بأربعة وخمسين يوماً وحسب.
وقد دمرت العصابات الصهيونية بلدة الشاعر تدميراً تاماً، ومحتها من الوجود انتقاماً من أهلها الذين أبلوا بلاءً حسناً في مكافحة الخطر الصهيوني في الثورات الفلسطينية المتعاقبة. وقد كان لاستيلاء اليهود على مسقط رأس الشاعر وبلاده أعمق الأثر في نفسه وشعره.
وقد أمضى الشاعر نحو سنتين في مصر ولا هم له سوى التردّد على فرع مكتبة دار الكتب المصرية في ضاحية الزيتون، ينهل مما فيه من كتب ومراجع ودواوين ومعجمات. وقد كان لنهمه هذا في القراءة في أثناء هذه الفترة أثر كبير في تعميق ثقافته وصقلها وتنميتها. وقد اعترف الشاعر في عدد من مقابلاته الصحفية أن أثر قراءاته في هذه الفترة من حياته في ثقافته، لم تكن لتقل عن الأثر الذي أحدثته فيها دراسته الجامعية المنتظمة في كلية اللغة العربية فيما بعد.
التحق شاعرنا بقسم البعوث الإسلامية في الأزهر في الثالث من كانون أول- ديسمبر سنة 1949م، وأمضى فيه عاماً واحداً التحق بعده بكلية اللغة العربية حيث تخرج منها عام 1955م، وكان ترتيبه الثاني على خريجي طلبة البعوث الإسلامية في الكلية من الذين حصلوا على "الشهادة العالية" في علوم اللغة العربية وآدابها. وفي عام 1967م حصل على درجة الماجستير بتقدير جيد جداً، وكان موضوع رسالته هو "الاتجاه الإنساني في الشعر العربي المعاصر". أما درجة "العالمية" أو "الدكتوراه" فقد حصل عليها عام 1972م، وذلك عن أطروحته التي أعدها عن "شعر المرأة العربية المعاصرة" وقد حصل على هذه الدرجة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.
عمل الشاعر في سلك التربية والتعليم بعد تخرجه، حيث زاول مهنة التدريس في المدارس الإعدادية والثانوية في كل من المملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة العربية السعودية، والكويت. في عام 1970م رُقِّي إلى وظيفة مدرس أول في مدرسة الشعب المتوسطة للبنين في الكويت، واستمر في هذه الوظيفة عاماً دراسياً واحداً، رُقِّي بعده إلى وظيفة موجه فني للغة العربية. وقد أمضى في مجال التوجيه عشرة أعوام مارس فيها التوجيه في المراحل التعليمية الثلاث: الابتدائية والمتوسطة والثانوية. في عام 1981 قدَّم استقالته من العمل في وزارة التربية الكويتية، وتعاقد للعمل مدرساً للأدب العربي في معهد التربية للمعلمين التابع للهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب، وهي بمثابة جامعة تطبيقية في الكويت، وبقي في عمله هذا ستة أعوام.
في عام 1986م تحول معهد التربية المذكور إلى كلية للتربية الأساسية تمنح خريجيها درجة البكالوريوس، فرُقي الدكتور رجا إلى درجة أستاذ مساعد، وقد شمل ذلك جميع الحاصلين على درجة الدكتوراه في المعهد حيث تم تسكينهم في هذه الدرجة. في عام 1987م نُقل إلى كلية الدراسات التكنولوجية مشرفاً على النشاط الثقافي، وقد بقى في هذه الوظيفة إلى أن بلغ السن القانونية، حيث أُنهيت خدماته في السادس من آذار – مارس – 1989م. وقد عاد الدكتور رجا إلى الأردن بعد أزمة الخليج، التي أفقدت الأمة العربية وزنها واتزانها، ولكن همّته لم تشأ له أن يركن إلى الراحة بالتقاعد عن العمل، فتعاقد للعمل مدرساً للغة العربية وآدابها في الكلية الوطنية، إحدى كليات المجتمع الخاصة المعروفة في عمان، وقد استمر عمله فيها أربعة أعوام، ولم يغادرها إلا بعد أن تحولت الكلية إلى مدرسة ثانوية تعرف بمدرسة "أكسفورد".
والدكتور رجا سمرين متزوج وله من الأبناء سبعة، أربعة من الذكور، وثلاث من الإناث. وقد قدر للدكتور رجا أن يدفع ضريبة الدم الفلسطيني عندما استشهد ولده الثاني "محمد" الذي كان يتلقى العلم في جامعة حلب، في معركة بطولية واجه فيها العدو الصهيوني في مدينة بحمدون بلبنان، وذلك في الخامس والعشرين من حزيران – يونيو- 1982 م وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
وقد مارس شاعرنا كتابة المقال فنشر في صحف العالم العربي ومجلاته نحو مائة مقال ما بين أدبي وديني وسياسي، كما نشر عن شعره أكثر من خمسين مقالاً في مختلف الصحف والمجلات. وقد أجرت مع الشاعر نحو اثنتي عشرة مقابلة إذاعية، وخمس عشرة مقابلة صحفية، وثلاث مقابلات تلفازية.
وقد عرفت الساحة الأدبية في الأردن شاعرنا منذ الخمسينات في القرن العشرين، وظل يمارس دوره الأدبي فيها حتى مطلع الستينات، حيث اغترب عن هذه الساحة، كما اغترب غيره من أبناء فلسطين والأردن الذين استقطبتهم دول الخليج العربي، فانساحوا في أرجائها بحثاً عن الحياة الأفضل لهم ولأبنائهم.
ولكل إنسان –مهما كان شأنه وموقفه– أعداء ومعارضون، ولكل كاتب أو شاعر خصوم ومنافسون، وشاعرنا الذي أصر –ومنذ نعومة أظافره– على أن يكون له في هذه الحياة وأحداثها مواقف خاصة نابعة من أعماق وجدانه ومبادئه وقناعاته التي كونتها عقيدته وثقافته وبيئته وكفاحه على مرّ الأيام، وشاعرنا هذا ليس بدعاً بين البشر، بل إنه واحد منهم يُحِبُّ ويُحَبُّ، ويَكْرهُ ويُكْرهُ، ويَأْلفُ ويُؤْلفُ...
ومن هنا فقد خاض كثيراً من المعارك الأدبية على صفحات الصحف والمجلات، وتعرض في كثير من الأحيان للمساءلة والملاحقة، ولكنه في جميع الأحوال ظل متمسكاً بمواقفه، متشبثاً بقناعاته، لا يَطْرِفُ له جفن، أو ترتعد له فريصة، أو يخطف له بصر كلما لوح له المساومون ببريق المال أو السطان.
أحب شاعرنا الحياة فكان شعره غناءً للحياة بكل صورها وألوانها، أحب بلاده فلسطين فكانت عشقه الأول، وجرحه الغائر الذي لا يندمل، وقد أحب من أجلها الشهداء وتغنى ببطولاتهم، وبكاهم وأبكى معه سامعيه وقراءه.
وقد تعاطف مع حركات التحرير في وطنه العربي الكبير وفي مختلف أنحاء العالم، فتغني ببطولات أبطالها وشعوبها وقادتها، وصور فرحه بانتصاراتها، ورثى شهداءها الذين ضحوا في سبيلها بدمائهم وأرواحهم ومناصبهم.
ولشاعرنا كذلك مواقف من الحياة وقضايا الإنسان ومثله العليا ومبادئه السامية، ومن الطغاة وعسفهم وجناياتهم وتجاوزاتهم، ومن أشباه الرجال وجبنهم وتفاهتهم، وقد صور مواقفه من كل ذلك أصدق تصوير.
وقد أحب النبوغ والعبقرية فأشاد بها، وصور إعجابه بأصحابها، وأحب أصدقاءه وزملاءه فكان وفياً لهم حريصاً على تخليد علاقته بهم، معنياً بتصوير محاسنهم، يبكي على من تَخَرَّمَهُ الموت منهم بدموع صادقة، ويرثيهم رثاءً معبراً عن الحب والوفاء والاعتراف بالصداقة والأصدقاء وبكل معاني الإعجاب والتقدير.
وقد أحب شاعرنا أبناءه وبناته وأحفاده وحفيداته فصور عاطفته نحوهم صغاراً ويافعين وشباباً ومتزوجين أو شهداء مضحين. وأحب كذلك المرأة زوجة وحبيبة، وصديقة وخطيبة، ورفيقة درب، وشركة حياة. وهل يكون الشاعر شاعراً إذا هو لم يَكْلَف بالمرأة ويحبها، وإن هو لم يصور هيامه بمحاسنها، وتعلقه بصحبتها، ودورانه في فلكها.
وإذا شئنا أن نتعرف قصة شاعرنا مع الشعر، فليس هنالك أفضل من أن نُحيل القارىء الكريم إلى تلك القصة التي نشرها في مقدمة ديوانه الثالث "الطريق إلى أرض ليلى" تحت عنوان "قصتي مع الشعر". وما استجد من مبادىء تضاف إلى تلك المبادىء الستة التي تحكم شاعريته. قال الشاعر: "إنه ليس هنالك سوى مبدأ جديد واحد يتلخص في رفضه الاعتراف بما يسمى بالقصيدة النثرية التي يؤمن بأنها لا تمت إلى فن الشعر بأي حال من الأحوال".
بقلم الأستاذ غالب سمرين
وُلد الأديب الشاعر الدكتور رجا سمرين في ريف فلسطيني جميل، في قرية تشكل لمحة من لمحات الإبداع الإلهي في هذا الكون؛ تدعو العقل وتستهوي الروح للتفكر والاستمتاع بجمالها. تحيط بها أرض خضراء، وفيرة الثمار، يلطفها جو منعش، وطقس معتدل أغلب شهور السنة، تسقيها ينابيع وعيون، ماؤها عذب من سلسبيل، ونقي كما تكون العذوبة والسلاسة والنقاء. جبالها تكسوها الأشجار المباركة: أشجار التين والزيتون… والزيتون أرفع أوسمة الله جمالاً وشأناً، زين بها صدور الجبال. وبالقرب من الوديان، وبجوار العيون تمتلىء جنانها بالرمان، وبساتينها بفاكهة التفاح والأجاص والبرقوق مختلفة الألوان والأنوع والأسماء… وفي شمال القرية وغربها تتجذر كروم العنب ودواليها، منها مرفوعات على عيدان وسيقان، ومنها متروكات على وجه الأرض متحررات. وإلى جوارها تنتشر حقول وموارس الحبوب، الحدائق والبساتين، الكروم والحقول.. وتبارك الله أحسن الخالقين. وإلى جانب كل ذلك: في صحن الدار وعلى قمم جداره تصطف صفائح النعنع والمنثور والفل والريحان والورد والياسمين.
في هذه البيئة وُلد شاعرنا ودرج، وكان استقبال ناظره لهذا الجمال يومياً طيلة العشرين سنة الأولى من سني حياته وتعايشه مع هذا البهاء وتفاعله معها أثراً عظيماً ترك بصماته على شعره كما تركت بيئة الأندلس ومدنها بصماتها على الشعراء فيها.. أو كما تترك كل بيئة بأمكنتها وأزمنتها بصماتها على الشعر والشاعر.
ولد شاعرنا في يوم الخميس السابع من آذار (مارس) عام 1929م، الموافق للخامس والعشرين من رمضان عام 1347هـ في قرية قالونيا إحدى القرى التي تتبع قرى بيت المقدس الشمالية. وكانت أسرة الشاعر تكثر فيها وفيات الذكور من الأطفال.. أربعة منهم ماتوا تباعاً ولم يكمل الواحد منهم عاماً كاملاً!
جاء شاعرنا إلى دنياه بعد عدد من الإناث اللواتي امتدت حياتهن... وكان أن رُزق والده بملوده هذا وهو في سن الخامسة والأربعين، فأطلق علىه اسم (رجا) وهو لفظ من الأمل نقيض اليأس. ويشير أبوه بهذا الاسم إلى توقع الخير بقدومه، راجياً أن تتحقق راجيته في هذا المولود في مقبل الأيام. أما والده واسمه محمد عبدالله سمرين عسكر خطاب.. فإليكم قصته التي أعرضها هنا بإيجاز...
لم يمنع ذلك الأب حبه لوليده، وطول انتظار قدومه، وشدة حماسه من تفاعل أبوته الواعدة على بنوة هذا الوليد المرتجى.. كل ذلك لم يمنعه من مواصلة جهاده ضد الغزاة يهود وأوصيائهم البريطانيين، وضد السماسرة الخونة في فلسطين.
كان صغيره هذا في شهور السنة الأولى حينما وجد الأب نفسه في خضم نضال جليل وهو يحارب مع رفاقه الأشاوس الغزاة يهود وحماتهم الانجليز، واتهموا بقتل العديد منهم؛ فاعتقلوه مع اثني عشر شاباً من شباب بلدته قالونيا في السادس والعشرين من نوفمبر عام 1929م. وكان صدى إحدى العمليات الفدائية لهذه النخبة من شباب بلدة الشاعر قد وصلت إلى ذوي السلطة والنفوذ في فلسطين من تلك الأعوام فتولوا مساندتهم أثناء محاكمتهم التي امتدت وغطت جلساتها الخمسين جلسة محاكمة في القدس، ودافع عنهم عدد كبير من مشاهير المحامين الفلسطينيين آنذاك. كان والد الشاعر ثورياً حقيقياً، وقومياً صادقاً، تتأجج داخله الأحاسيس والمشاعر الثورية التي تبلورت عنده في عمليات فدائية عديدة مشهود لها امتدت وغطت أعوام الثورات الفلسطينية ما بين عام 1929 حتى سنة 1938م.
كان محمد سمرين والد الشاعر رجا يؤمن بالفعل، فإن كان للكلام ضرورة ملحة فإنما يأتي ذلك بعد تنفيذ الفعل وإنجاحه! تنظر إلى ملامح وجهه فيمتلأ قلبك بالرهبة التي تمتزج بالتوقير والإكبار والاحترام.. تبدو عليه سمات الكبرياء.. كبرياء جبال فلسطين وشموخها.. تدور داخل نفسه جدلية الحياة بكل أبعادها في معركة صامتة مع نفسه. كان يعتبر نفسه جندياً من جنود الرحمن، وظيفته في الحياة أن يقتل ما استطاع من الغزاة وأوصيائهم، كان يردد دائماً قوله: (السيف الطايل يعدل الحق المايل). وقد أدرك شاعرنا عظمة والده وأقرانه من قادة الجهاد في قريته قالونيا وغيرها من القرى المجاورة.
في ديوان الشاعر (خميلة الروح) و(الأعمال الشعرية الكاملة) قصيدة واحدة لأبيه كان قد نظمها بعد 22 عاماً من وفاة والده بعنوان: (رسالة حب إلى سيدي الوالد... في مثواه الأخير). وكان والد الشاعر أثناء حياته يعرف قيمة الشاعرية في ولده، وقد حضر بعض أمسياته الشعرية في قاعات منظمة التحرير الفلسطينية في دولة الكويت.. وكان دائم التنويه بشاعرية ولده رجا وقد أفخره أبوه بها على أبنائه الآخرين.
والدة الشاعر أردنية معروفة النسب والانتماء، فهي تنتمي إلى عشيرة "العياصرة" من قرية ساكب من أعمال مدينة جرش واسمها "فاطمة عبد اللطيف المفلح". وكانت لا تتحدث إلا باللهجة البدوية، تلك اللهجة التي طالما أحببناها وطربنا لسماعها منها وقد ماتت عندنا بموتها وأصبحت في عداد التراث الذي فيه قيم الجدّات والجدود.
كانت -رحمها الله- تحفظ الكثير من الأمثال العربية، والأقوال الشعبية، والكثير من الشعر الذي كانت تجيد إلقاءه في المقام المناسب. وكانت تحسن الاقتباس والتحوير والتجيير بما تحفظه من الأشعار، فيبدو تأليفاً جديداً من إبداعها.. وكان من عاداتها في ليالي الشتاء البارد.. وقد خلت الدار من الصحب والزوار.. وحول كانون النار.. تثير في نفوس أبنائها -ومن بينهم شاعرنا- شجون الوحدة والخوف من المجهول.. بأن تشدوا بصوتها الجميل حزناً تراكم عندها بفعل الأحداث الجسام.. فمنذ أن فارقت مسقط رأسها في قرية ساكب مع زوجها والد الشاعر، وفارقت الأهل والعشيرة والديرة، وهي زوجة صغيرة.. تموت والدتها (جدة الشاعر) حزناً على فراق ابنتها بعد أيام من رحيلها. ثم يموت لأم الشاعر فيما بعد أربعة من الأبناء الذكور متتابعين قبل مجيء شاعرنا..
ولشدة حماسها للشعر كانت تشجع ابن عمّ للشاعر – وهو أحد حفاظ الشعر– على زيارتنا في ليالي الصيف وفي ليالي الشتاء، فنسمر ونتعلل إليه وهو يقرأ لنا القصص الشعبية، ويترنم بما فيها من شعر بلحن خاص مألوف، وكان رحمه الله بارعاً في أداء السيرة الشعبية والتغني بأشعارها وبصحبته ربابته ذات النغم الجميل.. يشدو بأشعار أبي زيد الهلالي، وذياب بن غانم، والسلطان حسن، والزناتي خليفة، وسيرة ابنته سعدة، وسيرة حمدة، ومن بعدها سيرة الزير سالم، مهلهل الشعر، وعنترة العبسي.. ويقص علينا في سهراتنا معه سيرة حياة أبطال العرب.
كنا نتعلق بصاحب الربابة – رحمه الله – فلا يبرح التعليلة ولا ننام حتى نعرف ما يؤول إليه الحدث في تلك السيرة في ليلتنا. ومن تلك السير حفظ الشاعر رجا الكثير من الحوادث والأشعار، وتعلّم الكثير من الأخلاق والمثل الإسلامية والعربية الأصيلة والنبيلة قبل أن يقرأها في مكتبات مصر أو في المدارس أو في الجامعات، وقبل أن يقرأ عنها في كتب الدين والتاريخ وفي كتب العلوم الإنسانية فيما بعد، فأدرك الصفات التي تميز العربي الأصيل من وفاء وشهامة وبطولة ومروءة ونخوة وكرم، وقول الحق ونبذ الظلم، وتمجيد القرابة ورابط الدم في العشيرة، واحترام صغيرها وكبيرها...
كانت والدة الشاعر أعظم كِتاب قرأه ولدها الشاعر، ففي حضنها درج، فأسقته من سقية القوافي والنغم، وأرضعته اللبن الشعري قبل أن يلج عالم الشعر فوق مقاعد الدراسة فتستقيم له قواعد اللغة وتتحدد معالم الشاعرية عنده. ونجد في ديوان (الضائعون) وفي (الأعمال الشعرية الكاملة) قصيدة للشاعر بعنوان (أمي) نلمح فيها ما تعلمه شاعرنا من هذه الأم العظيمة.. وقد أسمعها إياها قبل وفاتها بتسعة وعشرين عاماً.